غوص رذرفورد في عالم الذرة و اكتشاف النواة
المقدمة
في مطلع القرن العشرين، كان فهم العلماء للذرة و تركيبها أشبه بلوحة غير مكتملة الأركان، حيث ساد الاعتقاد حينها بأن الذرة عبارة عن كرة صلبة من الشحنات الموجبة تتخللها إلكترونات سالبة، حيث عرف هذا بنموذج "فطيرة الزبيب" أو نموذج البودينج للعالم طومسون. لكن هذا التصور أو هذا النموذج سرعان ما تشكل جذريا بل عدل تماماً على يد الفيزيائي المعروف إرنست رذرفورد و تلاميذه، في تجربة غيرت مجرى العلم إلى الأبد.
قذائف من الضوء
في مختبره بجامعة مانشستر عام 1909، انطلق رذرفورد بمعاونة فريقه بما فيهم تلميذيه هانز جايجر و إرنست مارسيدين في رحلة استكشافية إلى أعماق الذرة. استخدم رذرفورد بعض الأدوات البسيطة و لكن فكرتهم كانت ثورية جديدة: إذا ماذا حدث فالنذهب معا الى مختبر رذرفورد في الجامعة لنرى ماذا فعل هو و فريقه
قصف شريحة رقيقة جدًا من الذهب بجسيمات ألفا، و هي قذائف صغيرة مشحونة بشحنات موجبة تنبعث من مصدر مشع (مثل الراديوم). تم اختيار الذهب لكونه فلزًا يمكن تشكيله في شرائح رقيقة للغاية، لدرجة أن سمكها لا يتجاوز بضع مئات من الذرات فقط.
الهدف من تجربة رذرفورد لوصف الذرة و النواة
كان الهدف من التجربة هو مراقبة سلوك هذه الجسيمات بعد اصطدامها بالذرات الذهبية. و لتحقيق ذلك، أحاطوا الشريحة الذهبية بشاشة دائرية مغطاة بكبريتيد الزنك، و هو مركب يصدر وميضًا خافتًا عند اصطدامه بجسيم ألفا. و بذلك، يمكنهم تحديد مسار الجسيمات و اتجاه انحرافها بدقة.
النتائج غير المتوقعة: صدمة في المختبر
تبعا لما عليه نموذج طومسون، كان من المتوقع أن تمر جسيمات ألفا عبر الشريحة الذهبية دون أي عائق تقريبًا، مع انحرافات طفيفة جدًا. كانت هذه هي الفرضية السائدة التي أعد لها جايجر و مارسدن أنفسهم و تقبلها و لكن لنرى ماذا حدث
و لكن ما حدث كان غير متوقع على الإطلاق. لقد كانت النتائج صادمة و غير متوقعة علي الإطلاق لدرجة أن رذرفورد وصفها بقوله:
"كان الأمر أشبه بإطلاق قذيفة مدفع على ورقة مناديل و رؤيتها ترتد نحوك".
نتائج تجربة رذرفورد لوصف الذرة و النواة
تتلخص نتائج هذه التجربة في النقاط التالية:
- معظم الجسيمات مرت مباشرة: الغالبية العظمى من جسيمات ألفا (أكثر من 99%) عبرت شريحة الذهب دون أن تغير مسارها، كما لو أن الشريحة لم تكن موجودة.
- انحرافات طفيفة: عدد قليل من الجسيمات انحرف بزاوية صغيرة
- ارتداد نادر: جزء صغير جدًا من الجسيمات (واحد من كل 8000) ارتد بزوايا كبيرة جدًا، و في بعض الحالات ارتد إلى الخلف تمامًا هذا ما ذكر في التجربة الأولية و لكن مع تكرار التجربة بدقة اكبر (1 من كل 20000)
هذه النتائج كانت تناقضًا صارخًا مع النموذج السائد للذرة أو نموذج ذرة طومسون
استنتاجات رذرفورد الثورية
أدرك رذرفورد على الفور أن هذه النتائج لا يمكن تفسيرها إلا بوجود مركز صغير و كثيف داخل الذرة. و من هنا، وضع نموذجه النووي الذي غير فهمنا للعالم:
- الفضاء الخاوي أو الذرة معظمها فراغ. مرور معظم الجسيمات يدل على أن الذرة تتكون في معظمها من فراغ.
- النواة كثيفة جدا: وجود جسيمات ارتدت بزوايا كبيرة جدًا يعني أنها اصطدمت بجسم صغير جدًا، و لكنه شديد الكثافة و يحمل شحنة موجبة قوية. هذا الجسم أطلق عليه رذرفورد اسم النواة.
- النواة صغيرة جدا حجمها 1/100000 من حجم الذرة
- الإلكترونات: تدور الإلكترونات السالبة في مسافات شاسعة حول النواة، مثل الكواكب التي تدور حول الشمس، و هي ما يمثل معظم حجم الذرة.
و من هنا، نجحت تجربة قصف الذهب في الكشف عن السر العميق للذرة. لم تعد الذرة كرة مصمتة، بل أصبحت نظامًا يشبه النظام الشمسي و لكنه مصغرا، يتكون من نواة صغيرة و ثقيلة محاطة بسحابة من الإلكترونات.
كان هذا الاكتشاف حجر الزاوية الذي بنيت عليه الفيزياء الحديثة، و فتح الباب أمام فهم أعمق للتركيب الذري، مما مهد الطريق لاكتشافات عظيمة أخرى في عالم الكيمياء و الفيزياء النووية.
إنجازات النموذج
- تفسير ارتداد جسيمات ألفا.
- إثبات تركُّز الشحنة الموجبة في النواة.
- تأسيس مفهوم *النواة الذرية* (أطلق عليها رذرفورد اسم Nucleus).
- فتح الباب لاكتشاف *البروتون* (بواسطة رذرفورد نفسه عام 1917).
مشاكل النموذج
لم يستطع تفسير رذرفورد تفسير بعض النقاط
1. استقرار الذرة وفقًا للفيزياء الكلاسيكية، الإلكترونات الدوارة يجب أن تشع طاقة و تنهار على النواة!
2. أطياف العناصر: لم يفسر الخطوط الطيفية المُنفصلة للعناصر.
(هذه المشاكل حُلَّت لاحقًا بنموذج بور و النموذج الكمي).
تطور النموذج لاحقًا
- 1917: اكتشف رذرفورد *البروتون* في النواة.
- 1932: اكتشف شادويك *النيوترون* (في نواة رذرفورد)، فأصبحت النواة = بروتونات + نيوترونات.
أهمية نموذج رذرفورد
يُعد حجر الزاوية في علم الفيزياء النووية، حيث:
- غيَّر تصورنا عن المادة من "كرة مصمتة" إلى "نظام شمسي مصغَّر".
- مهَّد الطريق لاكتشاف الطاقة النووية و ميكانيكا الكم.
قال رذرفورد: "كل العلوم إما فيزياء و إما جمع طوابع!"* دليلًا على اعتزازه بإسهاماته
تعليقات
إرسال تعليق